هذه الإحتفالية، كيف ترى العالم اليوم؟
وكيف يراها هذا العالم الجديد؟
وبأي عين ترى الثوابت والمتغيرات في الواقع والوقائع؟
وكيف تميز في الصور بين الأصول والظلال؟
وكيف يمكن أن تحتفظ بخصوصياتها داخل شمولية النظام العالمي والعولمي المعاصر؟
إنه لاشيء يرعب الاحتفالية أكثر من أن ترى الإنسان المعاصر وقد ضيع إنسانيته، وأن ترى هذا الكائن الناطق، وقد ضيع ملكة النطق فيه، وأصبح مجرد كائن متفرج، وذلك في عالم أصبح مجرد أخبار مصورة، ومجرد فرجات مشهدية، ومجرد أساطير جديدة ومتجددة.
هذا الإنسان، يجد نفسه اليوم في عالم الأشياء شيئا، ويجد ذاته في عالم الأرقام رقما، ويجد اسمه في سوق الوفرة بضاعة، و بهذا تكون إنسانيته مهددة، وتكون خصوصيته مصادرة، وتصبح حيويته معتقلة، وبهذا يتحول إلى آلة بشرية، أو يكون مجرد لولب صغير وحقير، وذلك في ماكينة جهنمية كبيرة وخطيرة .
كما يرعب هذه الاحتفالية، أن ترى الغاب يزحف على المدينة، وأن ترى منطق الغاب هو منطق هذه الساعة الجاهلية الجديدة.
ولأن الاحتفال ـ في حقيقته ـ لحظة إبداع مركبة ومركزة، وأن هذا الإبداع حرية وحيوية قبل كل شيء، فإنها تخشى أن يزحف التقليد على التجديد، وأن يغطي النقل على العقل، وأن تعوض المادية والآلية الحياة والحيوية، وأن تكون الطاقة المادية أخطر من الطاقة الذهنية والنفسية والوجدانية والروحية، وأن تصبح حياتنا اليومية ـ بكل فعلها وانفعالها، وبكل حالاتها ومقاماتها ـ شريطا مصورا، ولا شيء أكثر من ذلك .
ولأن النزعة الاحتفالية، هي بالأساس خاصية بشرية، ولأن الإنسان كائن احتفالي بالفطرة، ولأن هذه الفطرة وحدها لا تكفي، فقد كان ضروريا أن تتعزز بالثقافة، وأن تتعقلن بالتفكير، وأن يصبح ذلك الفعل الاحتفالي الخام مصنعا، وأن يبلغ درجة المؤسسة، وأن يكون له دوره الحيوي في المجتمع، وألا يظل في حدود الفلكلور، وعند عتبة الفرجة المشهدية البدائية.
إن الاحتفالية اليوم، في ظل سياسة التسييح والتسليع، تجد نفسها معرضة للمسخ والتشويه، ويمكن أن نلاحظ أن ثقافات الدول المستضعفة ـ ماديا ـ معرضة للتصدير والتسويق، ومعرضة للتسليع والتبضيع، ومعرضة للشراء والبيع، ولأن أنظمة دول العالم الثالث قد خوصصت كل ممتلكات شعوبها العامة، وكل خيراتها المادية، فإنها اليوم لا يبقى لها سوى أن تبيع ثقافاتها أيضا، وأن تسوق فنونها، وأن تروج حضاراتها، وأن تعرضها في مهرجانات الصوت والصورة، وفي مهرجانات الحركة والأزياء .
إن التركيز على المظاهر الاحتفالية اليوم، في مستواها الفلكلوري الخام، قد أفقد هذه الاحتفالية روحها الحقيقي، وأفقدها مصداقيتها، وأفقدها لغتها ونبلها، ولعل هذا هو ما يجعل الحركة الاحتفالية تناضل ضد كل قوى التشويه، وضد قوى الغزو، وضد قوى الاستلاب، وضد قوى المسخ .
في هذه السياسة الجديدة، نجد أن الرأي العام ـ المصنع والمفبرك إعلاميا ـ على المقاسات الدولية المطلوبة، أصبح يأخذ مكان الرأي الخاص، وأصبح يغطي على الأصوات المختلفة والمغايرة .
إن الإنسان اليوم، وفي ظل الشروط الجديدة، أصبح مطلوبا منه أن يكون عينا فقط، وأن تقتصر مهمته على أن يرى، وأن يعيش حياته في الصور أكثر مما يعيشها في الواقع، وعلى أن يستمع فقط، من غير أن يتكلم، وأن يقتنع فقط، من غير أن يعترض، ومن غير أن يحاور أو يجادل، أو أن يكون له رأي يمكن أن يعبر عنه .
وتؤكد الاحتفالية على أن ( المبدع شاهد على عصره، وبحكم هذه الصفة، فإنه لابد أن نقول بأن المستقبل للهامشيين، أي لأولئك الذين احتفظوا بصحتهم وعافيتهم، وذلك داخل مجتمعات أصابها الوباء ( فمرض) الجميع، واستظهروا نفس الكلام والأفكار والمصطلحات، ومن أعراض هذا الوباء أن يتحرك الناس، ولكن بدون شعور، وفي المقابل يؤدون حركة بلا معنى، وخارجها يقولون كلاما بلا معنى كذلك ) 1
إن هذا الاحتفال الشعبي، لا يمكن أن نجرده من روحه، ولا يعقل أن نفصله عن شرطه المؤسس له، والذي هو الفرح، أو هو الحالة الوجدانية، الشفافة والدقيقة، وذلك بكل تفاعلاتها الكيميائية الداخلية، وبكل مظاهرها وظواهرها، وبكل امتداداتها وحركاتها التي لها علاقة بالفيزياء الحيوية.
إن هذا الاحتفال، عندما يدخل سوق السياحة، يضيع قيمته الحقيقية بكل تأكيد، ويصبح مجرد صورة، ويكون شكلا من أشكال السينما، أو يكون مجرد استعراض فقط، يخاطب العين الحسية وحدها، ولا يصل إلى القلب، ولا يمكن أن يلامس العقل، أو أن يقترب منه، كما أنه لا يمكن أن يحرك أوتار الروح والوجدان، أما بالنسبة لتسييس هذا الاحتفال، فقد ابتدأ في الأنظمة الشمولية والاستبدادية بكرة القدم أولا، وارتقى بهذا الاحتفال الشعبي إلى درجة المخدرات، وحاول أن يعوض الخبز بالخواء، وأن يترجم الأحلام إلى أوهام، وأن يعمل على تصريف شحنة الغضب الشعبي في الملاعب، وأن يحرف القلق عن موضوعه الحقيقي، والذي هو قلق اجتماعي وسياسي قبل كل شيء، ولعل هذا هو نفس ما نعيشه اليوم، مع سياسة المهرجانات، والتي تحاول أن تملأ فراغات البطون، وفراغات العقول، وفراغات النفوس والأرواح، بكثير من الصخب والضجيج ، وبكثير من الخواء، والذي لا يمكن أن يؤسس لحظة فرح حقيقية .
إن الاحتفال هو الصدق، وهو الحيوية، وهو التحرر النفسي والذهني، وهو الغنى المادي والروحي، وهو العربدة الوجدانية ، وهو الانتشاء الشعري، أما عندما يكون هذا الاحتفال، في درجة الاستعراض النرجيسي البراني، أو في درجة التبرج الكاذب، أو في درجة النفاق الاجتماعي، أو في درجة الزيف السياسي، فإنه لا يمكن أن يكون احتفالا حقيقيا وصادقا، ويمكن أن نعطيه من الأسماء ما نشاء، غير أن نحمله اسم الاحتفال (وكل شيء في حياتنا اليومية يتعرض للمسخ والتزييف، والتبرج الكاذب يبقى سيد الأخلاق ) 2
إن الحضور، قلبا وقالبا، وجسدا وروحا، هو أهم وأخطر شروط الاحتفال كلها، أي أن الأساس، في أي فعل تعييدي، أن يكون المحتفلون والمعيدون حاضرين، وأن يكون لهذا الحضور معنى التلاقي، وأن يكون لهذا التلاقي نقطة مركزية واحدة، نقطة محورية تلتقي عندها الذوات المختلفة، وتتقاطع عندها النفوس والأرواح، أما أن تحضر الزرابي، وأن تحضر الموائد والكراسي، وأن تلمع الأضواء، وأن يتحول اللقاء إلى استعراض للأزياء وللأقنعة الخادعة، وللإصباغ، وأن يغيب ـ في المقابل ـ الإنسان المحتفل، وأن يتم التشويش على قضاياه الحقيقة، وأن يتم الالتفاف على مطالبه الأسياسية الأولية والحيوية، فتلك هي القرصنة البهرجانية بكل تأكيد.
وفي مواسمنا الشعبية، ( نحتفل ) بالأولياء والصالحين، ونحتفي بالموتى، ولا نعير للأحياء أي اهتمام، وهل يكون الاحتفال ـ في معناه الحقيقي، إلا احتفالا صادقا وتلقائيا بالحياة والحيوية؟ إننا نبني للموتى قببا عاليا، ونشيد لهم الأضرحة والمزارات، والإقامات الفخمة، أما الأحياء ـ أو أشباه الأحياء ـ فإننا ندعهم يسكنون القبور، و ( يعيشون ) الموت ، فأي منطق هذا؟ وأي عقل يمكن أن يقبل هذا الاحتفال المزيف ؟
أما على المستوى الرسمى، فإنه لا شيء يحضر إلا البروتوكول أيضا، أما روح الاحتفال فهو غائب أو مغيب، و( سنويا، تحتفل حكوماتنا الموقرة بشيء يسمى اليوم العالمي للمسرح، إننا نؤمن بهذا المسرح ـ شكليا ـ ونكفر به عمليا، ونعطيه يوما من الأيام، ونمنع عنه سائر الأيام الأخرى، وبهذا تكون ( كل) احتفالاتنا الرسمية بلا معنى، فهي مجرد مظاهر بروتوكولية، ولا شيء سوى ذلك ) 3
وبهذا إذن، تكون كل البهرجانات الرسمية اليوم، مجرد سياسة وتسييس، وتكون مجرد سياحة وتسييح، وفي هذا الفعل المفتعل والمفبرك، تحضر مظاهر الفرح وحدها، وفي مقابلها، يغيب الفرح، ويغيب العيد، ويتم الاعتداء على الحقيقة .